الجمعة، 27 يوليو 2018

الملفات السرية للحكام العرب.




دائماً ماكان التاريخ مقبرة لأسرار دفنت مع أصحابها دون أن ترد علي السنة المقربين من اصحاب السطوة وصناع الاحداث في الوطن العربي بصفة خاصة، فلا تزال هناك المئات بل الآلاف من الاسرار التي لم تكشف عنها الاقلام الهاوية للحفر والتنقيب في احداث الماضي وصفحات التاريخ ورغم ذلك يطل علينا من حين لآخر كاتب جرئ يكشف عن احداث وتفاصيل دارت رحاها في أروقة القادة السابقين ومن ثم يساعد في حل طلاسم وشفرات الاحداث التي شابها الغموض وتعددت علي اثرها التفسيرات والأقاويل منها ما كان صائباً ومنها ما كان مضللاً ومنحازاً... بين أيدينا كتاب هام صدر عن مكتبة النافذة للكاتبة الامريكية ساندرا مكي يحلله الكاتب هشام خضر بعنوان «الملفات السرية للحكام العرب» تتناول فيه الكاتبة تفاصيل مذهلة ووقائع اغرب من الخيال للاسرار الشخصية للحكام والزعماء العرب كما تتناول الاسرار الخفية وطرق حكمهم للعالم العربي وحياتهم الخاصة لذا نتطلع من خلال التقرير التالي لقراءة متأنية في سطور الكتاب بكل دقة وحيادية. 


الملك حسين..الخيانة والدهاء 

حين أندلعت شرارة حرب فلسطين عام 1948 كان عمر الملك حسين لا يتجاوز الثلاثة عشر عاماً وكانت عيناه تتابعان جده عبد الله وهو يتودد تارة لابناء أمته العربية وتارة أخري يتودد في الخفاء للصهاينة وعندما نشبت الحرب بين الدولة اليهودية والقوي العربية راح الملك عبد الله يضم الضفة الغربية لنهر الاردن بما في ذلك الخليل وأريحا ونابلس والقدس الشرقية وهو ما دفع الجامعة العربية للتهديد بطرد الاردن من الجامعة العربية.. 

وواجه عبد الله هذا التهديد بدهاء فقد وجد نفسه محاطاً بين عزلة تنتظره من جيرانه العرب وبين التمسك بالاراضي الفلسطينية التي إحتلها واختار اقلها ضرراً في تقديره وهو الحفاظ علي مكاسبه في فلسطين واظهر عدم احترامه وتقديره للزعماء العرب الذين توحدوا ضده وواصل استمراره في دعم أواصر الصداقة مع قادة إسرائيل.. 

وفي يوم 20 يوليو 1951اتجه الملك عبد الله إلي القدس لاداء صلاة الجمعة رغم تحذير السفيران الامريكي والانجليزي له من مغبة اغتياله إلا أنه اصر علي الذهاب وتمكن شاب يدعي مصطفي شكري من اقتحام موكبه واغتياله بأوامر من الحاج أمين الحسيني قائد جيش الخلاص. 

بعد ذلك تولي طلال أكبر ابناء الملك عبد الله الحكم طبقاً لنص الدستور ولكنه عاني كثيراً من الوحدة والتقلب المزاجي وقيل انه كان مصاباً بالانفصام في شخصيته وكثيراً ما تعرض للهياج العصبي، وبعد فترة ليست طويلة من الوصاية علي العرش والقيد في كلية ساند هيرست بلغ حسين السابعة عشرة من عمره فوقف يحلف قسم اليمين كملك جديد خلفاً لعرش والده الذي تم ايداعه في إحدي دور المصحات النفسية. 

وكان الملك حسين ذو شخصية انطوائية تميل للوحدة وعدم التجاسر علي مواجهة الآخرين بشجاعة وكان لديه قدراً من الاعتزاز والثقة بالنفس خاصة انه نجا من احدي عشرة محاولة اغتيال كما كان يفخر بنسبة للنبي«ص» وانتمائه لجده مشعل نيران الثورة العربية إلا أنه كان اكثر ميلاً وجنوحاً للغرب. 

وتتطرق المؤلفة إلي طبيعة الصدام بين جمال عبد الناصر واتباعه والملك حسين بوصفه أحد رواد المدارس الرجعية التي تقودها السعودية فتقول: 

خلال الفترة من 1958 إلي 1960 كانت حياة حسين رهينة في أيدي اتباع جمال عبد الناصر القوميين ففي داخل قصره تم اكتشاف أحد عملاء ناصر وكان يعمل طباخاً خاصاً للحسين وجاء الاكتشاف نتيجة وجود نحو 15 قطة ماتت بفعل تجارب السموم التي قام بها الطاهي علي تلك القطط بأنواع مختلفة من السم وفي محاولة اخري قام شخص بوضع حامض في زجاجة نقط الأنف الخاصة بالملك حسين وقد لاحظت إحدي مديرات المنزل ذلك من خلال نقل النقاط إلي زجاجة اخري حيث لاحظت وجود تآكل علي اطراف الزجاجة فتوجهت إلي رئيس الديوان الذي استدعي الخبراء وتبين انه سم تم وضعه لقتل الملك وهناك محاولة أخري تعرض لها اثناء زيارته لجامعة عمان لمتابعة بعض ما حدث بها من تطورات حيث القي احد الاشخاص قنبلة شديدة الانفجار لكنها لم تتفجر، وفي داخل مكتب رئيس الوزراء وضع احد الاشخاص قنبلة كانت في انتظار قدوم الملك حسين لمقابلة عدة شخصيات سياسية طلب مقابلتها في مكتب رئيس الوزراء إلا أنها انفجرت قبل قدومه بثوان وأودت بحياة كل من كان في مكتب رئيس الوزراء. 

وفي عام 1960 اصبح الملك حسين حصناً منيعاً ضد عبد الناصر الأمر الذي دعا الغرب لدعم مركزه من خلال شحن صفقات الاسلحة والمعونات والمنح التي لا ترد حتي صار هو رجل الغرب في المنطقة ولكنه لم يستطع الابتعاد عن العرب أو حتي الاستمرار في معاداتهم بل حاول التقرب من دعوة ناصر وأبدي مفهوماً جديداً ذا صيغة رائعة تؤكد أن قوة العرب تكمن في عناصر متنوعة ومتباينة. 

في 30 مايو 1967 وصل الملك حسين الي القاهرة مرتدياً الزي العسكري وهو يتمزق داخلياً وقد ابتلع سنوات الشتائم والاهانات التي بثها راديو صوت العرب ضده ووجد نفسه مضطراً للتوقيع علي اتفاقية الدفاع المشترك علي أن يتولي لواء مصري قيادة القوات العسكرية الاردنية حال وقوع الحرب وكان اللواء عبد المنعم رياض. 

وفي 5 يونيو 1967 لم تحارب القوات الاردنية سوي ثلاثة ايام فقط فقد قامت اسرائيل في ساعات الحرب الاولي بتدمير إحدي وعشرين طائرة مقاتلة من مجموع 22 طائرة اردنية من طراز هنتر كان يمتلكها جيش الملك حسين والحقيقة ان اسرائيل لم تكن ترغب في مهاجمة الاردن وهو نفس الشعور الذي كان يراود الملك حسين وحدث أن بعث ليفي أشكول رئيس وزراء اسرائيل برسالة عاجلة إلي الملك عن طريق قائد قوات الأمم المتحدة مفاداها أن اسرائيل لن تهاجم الاردن ما لم تقم الاردن بمهاجمتها ولكن الرسالة وصلت بعد فوات الاوان وكانت النتيجة الحتمية لذلك تدمير اسلحة جيش الملك حسين. 

وفي اليوم الثالث للحرب فقد الملك حسين مدينة القدس وجميع اراضي مدينة الضفة الغربية وبالتالي فقد جغرافياً مساحة هائلة اقتطعتها اسرائيل عقاباً له بسبب انتمائه لانصار القومية العربية وتعرض لضغوط عصيبة أرقت نومه لدرجة انه اجري عملية جراحية في الفك العلوي عام 1969 . 

ورغم أن الملك حسين كان يتطلع من وقت لآخر للتفاوض مع اليهود إلا أن البعض قد همس في أذنه ناصحاً له بعدم الاندفاع نحوهم حتي لا يتعرض للقتل كما سبق أن تعرض جده عبد الله من قبل. 

اتخذ الملك حسين بعد ذلك عدة اجراءات لردع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كانت تقوم باعمال تخريبية بين الاردن حيث قامت باقتحام فندق انتركونتننتال واحتجزت نحو اثنين وستين من النزلاء الاجانب من بينهم اصغر ابناء الرئيس اللبناني كميل شمعون. 

وخرج الملك حسين منهزماً في كافة النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن ثم ذهب يبحث عن حل سلمي مع اسرائيل ليسترد من خلاله كافة الاراضي التي سلبتها منه اسرائيل وذلك من خلال مفاوضات ثنائية اجراها مع آبا إيبان وزير خارجية اسرائيل الذي التقي به في أحد فنادق لندن كما تمت بعض المفاوضات السرية بينهما ليلاً في الخفاء تحت اضواء قاربين في مياه خليج العقبة. 

حافظ الاسد ..الليث الجريح 

تستعرض الكاتبة قصة صعود الاسد لتولي الحكم في سوريا وتشير إلي الخلافات الشديدة بينه وبين السادات بعد اعلان الآخر عن عزمه زيارة اسرائيل في 19 نوفمبر 1979 حتي قيل أن الاسد كاد أن يعتقل السادات في مطار دمشق لولا أنه ادرك المخاطر التي ستنجم عن هذا القرار بالاضافة الي موقف الاسد من اتفاقية كامب ديفيدة واستقباله لقادة الدول العربية المعارضة لمعاهدة السلام وتكوين تحالف عدائي لمصر تحت مسمي راديكالي هو«جبهة الصمود والتصدي» 

وتشير ساندرا للصراعات الخطيرة التي تعرض لها حافظ الاسد وخاصة صراعه مع ابناء حزب البعث فضلاً عن صراعه الشهير مع جماعة الاخوان المسلمين التي أباد منها عشرات الآلاف في مذابح جماعية الأمر الذي أدي لإظهاره امام العالم كزعيم دموي سفاح يحكم بلاده علي غرار حكم ستالين في روسيا.. 

كما اشارت الي تراجع حافظ عن موقفه الرافض لإجراء مباحثات سلام مع الجانب الاسرائيلي حيث جلست سوريا برئاسة وزير خارجيتها فاروق الشرع وجها لوجه مع اسحاق شامير في مؤتمر مدريد للسلام الذي اقيم برعاية امريكية. 

وتطرقت الكاتبة الي دور مجلس الشعب السوري في تعديل الدستور لكي يتوائم مع ظروف بشار الاسد خاصة فيما يتعلق بالعمر الزمني الذي اشترط الدستور السوري توافره في رئيس الجمهورية. 

ثم تستعرض ساندرا نشأة وتكوين حافظ الاسد فتقول انه في صباح السادس من اكتوبر عام 1930 ولد حافظ الاسد في منزل متواضع مكون من حجرتين تم بناؤهما من الحجر الخشن في قرية قرداحة وكان والده مزارعاً ساعده علي تلقي علومه الدراسية واستكمال تعليمه وحين بلغ السادسة عشر التحق بحزب البعث الذي كان يجهز الاقليات لتولي أرقي المناصب السياسية والاجتماعية داخل النظام الحاكم وكان يجيد فنون الرسم علي الجدران ثم التحق بصفوف القوات المسلحة. 

في ليلة 7 مارس 1963 اصدرت اللجنة العسكرية اوامرها للدبابات بالتحرك نحو دمشق وسقطت العاصمة في لمح البصر وبعد تقلبات وصراعات عدة استطاع حافظ الاسد اعلان نفسه رئيساً للبلاد دعمه في ذلك العقيد معمر القذافي بعد احداث 73 شنت سوريا هجوماً علي الرئيس انور السادات الذي اتهمته فيه بأنه تخلي عن الرئيس حافظ الاسد اثناء مفاوضات فك الاشباك وأن السادات لم يبلغه مسبقاً بعد أن عرضه علي الهيئة التشريعية في مصر في السادس عشر من اكتوبر. 

وبعد احداث كامب ديفيد وحالة العداء التي سيطرت علي الاسد ضد مصر لجأ الي رموز المقاومة الفلسطينية واستقبلهم في دمشق واكرم ضيافتهم لارهاب القادة العرب وحين وقعت لبنان اتفاقاً مع اسرائيل ارسل بعض الخلايا الفدائية للتفجير والقتل واشاعة الفوضي وبارك نشاط الجماعات الاسلامية في لبنان والتي كانت تستهدف الامريكيين. 

وحين اعلن ريجان مبادرته الشهيرة عام 1982 كان ياسر عرفات علي وشك منح الملك حسين توكيلاً عاماً بالتفاوض مع اسرائيل باسم الفلسطينيين وهو ما دفع الاسد إلي الهجوم علي ياسر عرفات مهدداً بإغتياله وخلعه والقضاء علي جناحه في منظمة التحرير الفلسطينية. 

وفي عام 1983 اكدت المملكة الاردنية انها بصدد الانتهاء من تشكيل وفد فلسطيني اردني للتباحث مع اسرائيل وهو ما دعا الاسد إلي دعم اعداء الملك حسين داخل الاردن وقام بشن سلسلة من الهجمات علي مصالح الملك حسين خارج بلاده ففي شهر اكتوبر 1983 أطلقت النيران علي دبلوماسيين اردنيين في اثينا كما تمكن خبراء كشف المفرقعات من ابطال مفعول ثلاث قنابل اخري كانت علي وشك الانفجار.. 

وفي ديسمبر 1983 لقي مسئول اردني حتفه برصاص أحد الموالين لحافظ الاسد كما نجا القائم بالاعمال الاردني في اثينا من الموت بعد ان تعطل مسدس القناص الذي كان يتربص به وفي ابريل وعقب الاستعداد والاعلان عن بدء مفاوضات مشتركة بين الاردن وفلسطين مع اسرائيل انهالت الرصاصات علي مقر السفارة الاردنية في روما وعلي إحدي الطائرات الاردنية المرابطة في مطار اثينا ثم اطلق مسلحون النار علي مكتب شركة عالياً بمدريد وفي شركة الخطوط الجوية الاردنية ثم قتلوا ايضاً السكرتير الاردني للسفارة الاردنية في انقرة. 

وفي خريف 1985 كان الملك حسين قد اصابه اليأس حين فشل شيمون بيريز في تحقيق الفوز في انتخابات الرئاسة الاسرائيلية التي فاز بها منافسة اسحاق شامير وامام الضربات الارهابية ـ كما تقرر الكاتبة ـ التي قام حافظ بدعمها اعلن الملك حسين رفضه القيام بأي مباحثات مع الجانب الاسرائيلي معترفاً بهزيمته الساحقة امام الارهاب السوري. 

آل سعود..بين النفط والرفض 

استعرضت ساندرا في هذا الفصل تاريخ نشأة المملكة العربية السعودية ثم انتقلت إلي حادث اغتيال الملك فيصل علي يد ابن اخيه وانتقال مقاليد الحكم للملك خالد فتقول: 

سقط الملك فيصل الذي تولي سياسة البتروإسلام أو بمعني أودي الاسلام البترولي قتيلاً في 25 مارس 1975 ومرة اخري دبت الخلافات بين آل سعود لتحديد من يخلف الملك فيصل ويتولي مقاليد الامور حتي تم حسم الامور في اختيار الملك خالد رابع ابناء الملك عبد العزيز، وحين قام السادات بمبادرته الشهيرة نشبت الخلافات بين آل سعود داخل جدران القصر الملكي وتطايرت الشائعات التي توكد أن الأمير فهدأطلق آنذاك رصاصة اصابت الأمير عبد الله رئيس الحرس السعودي الملكي احتجاجاً علي معارضة الأمير عبد الله لمبادرة السلام الأمر الذي أدي إلي سفر بعضهم طبقاً لروايات المقربين من القصر الي اسبانيا للنقاهة والابتعاد عن دائرة المشاحنات التي دبت في ارجاء القصر الملكي. 

ثم تطرقت الكاتبة الي نتائج الثورة لاسلامية في ايران وتداعياتها علي مملكة آل سعود وما ترتب عليها من احداث دموية كادت تطيح بالعرش السعودي فتشير الي معاناة آل سعود بعد وقوع مكة في أيدي بعض المتمردين الاسلاميين وزادت الامور حدة حين انتفض السكان الشيعة لتأييد الثورة الاسلامية في إيران وقامت ايران بوضع شحنات متفجرة داخل البحرين والكويت وبات الخطر متربصاً بالمملكة التي كادت تفقد شرعية بقائها.


سيد حسين

المصدر : معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
washingtoninstitute.org

اسرائيل الرائعة



في عالم مثالي، تقوم دولة إسرائيل، ذات الأكثرية اليهودية والتي تتمسك بعمق التاريخ الروحي والمدني اليهودي وتسير به قدماً، والتي تضمّ كذلك مجتمعاً عربياً مزدهراً، لتتجاور وفلسطين، ذات الغالبية العربية والتي تحتضن مجتمعاً يهودياً من المواطنين والمقيمين، وتسعى كل منهما إلى صيغة مماثلة للاتحاد الأوروپي تشمل غيرهما من دول المنطقة. وتُحلّ الخلافات، الفردية منها والجماعية، ضمن منظومة عدلية وثقافية قائمة على الثقة المتبادلة. ولكن للأسف، تبدو المنطقة اليوم بعيدة عن هذا التصور أكثر من أي وقت مضى.
أسباب هذا الفشل متعددة، والسياسيون والمثقفون من الجانبين ناشطون في استدعاء سجالياتها، فالمظلوميات هنا وهنالك لها ما يبررها، في حين يمكن بالتأكيد إلقاء اللوم على مختلف الأطراف المؤثّرة، المحلية والإقليمية والدولية، بفعلها وتركها، لما آلت إليه هذه القضية المحبِطة بين فلسطين وإسرائيل.
غير أنه لا بد، من وجهة نظر نقدية ذاتية عربية، من اعتبار جدي لتطورين أخيرين: «مسيرات العودة» المتواصلة عند الحدود بين قطاع غزة وإسرائيل، والتعليقات التي أدلى بها زئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مؤخراً. ففي الحالتين، ثمة سؤال واقعي لا بد من طرحه، إزاء كل من الحدثين كما إزاء ردة الفعل تجاهما في الوسط الثقافي العربي: ما الذي يدعو إسرائيل إلى السعي لتحقيق السلام مع خصم قد عقد العزم على انتقاصها وإلغائها؟
بغضّ النظر عن أي اعتبار قانوني أو إجرائي، ومن وجهة نظر معنوية وأخلاقية محضة، حق الفرد بالعودة إلى داره، وبالسعي إلى استرداد ملكيته، وبالمطالبة بالتعويض لحرمانه منها، هو حق جلّي مؤكّد. وكذلك حق الفرد بأن يحيا بأمان في وطنه دون أن يكون مكرهاً على مجابهة المحاولات الصريحة والخفية لاستئصاله منه أو للقضاء عليه.
والتقييم النزيه لـ «مسيرات العودة» لا بد له من الإقرار بأنها تشكل تحدياً لحق الإسرائيليين بالأمان في موطنهم والاطمئنان إلى ديمومة مجتمعهم، أكثر منها إلى تأكيد حق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. فالسلمية التي تشهرها هذه المسيرات تتعارض مع خطاب الإسقاط والاقتلاع الموجّه لـ «الكيان» من أطراف فلسطينية ومن مجمل الثقافة السياسية العربية. التأكيد على الحق الفلسطيني بالعودة، على وضوحه الأخلاقي، لا يكون من خلال رفض الأساس الذي يقوم عليه حلّ الدولتين، والذي يقضي بأن إسرائيل سوف تحصل عند تنفيذ هذا الحل على الثقة بأن دمارها لم يعد هو المرام. والانتقادات، في إسرائيل نفسها وفي مختلف أنحاء العالم، قد توالت للشدة التي تظهرها السلطات الإسرائيلية في مواجهتها لحراك «مسيرات العودة». فهذه المسيرات بالفعل لا تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل كدولة وكمجتمع. غير أن هذه المسيرات تكشف عن النوايا السيئة المبيتة تجاه إسرائيل، ما يدعو حتى أقوى المتمسكين بحق العودة الفلسطيني إلى إعادة اعتبار في موازنة الحقوق، ذلك أن هذه المسيرات، في تأطيرها الوطني الفلسطيني كما الثقافي العربي الطاعن بالحق الإسرائيلي، تبرر وجهة النظر التي التزمها المشككون والمتشائمون من جدوى العملية السلمية، والتي تفيد بأن الحق الفلسطيني بالعودة يعلو عليه الحق الإسرائيلي بالأمان.
وما هو أكثر إشكالية من «مسيرات العودة»، والتي توجهها أو تتحكم بها أطراف، تسعى إلى الكسب الآني وإن على حساب المصلحة الفسطينية الطويلة الأمد، مثل حركة حماس أو إيران، هي التصريحات التي أدلى بها محمود عباس، بصفة رسمية، في محفل رسمي. وفي حين أن العديدين في إسرائيل والغرب قد أدان هذه التصريحات على أنها «معادية للسامية»، إذ تنسب اضطهاد اليهود في أوروپا، بما في ذلك المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية، إلى «دورهم الاجتماعي» كصرّافين ومرابين، لا إلى هويتهم الدينية والثقافية، فإن هذه التصريحات لم تلقَ من يعترض عليها أو يدينها في مجمل الثقافة العربية. بل واقع الأمر هو أن الآراء التي عبّر عنها أبو مازن يمكن تصنيفها على أنها «معتدلة» في سياق ثقافي عربي ينظر إلى اليهود، ككم أحادي، على أنهم «قتلة الأنبياء» وأحفاد القردة والخنازير، ويعتبر «پروتوكولات حكماء صهيون» مرجعاً موثوقاً، ويعيد كافة الشرور التي أضرّت بالعالم، مثل الشيوعية والإمپريالية، إلى أصل خبيث واحد هو «اليهود». بل في معظم الثقافة السياسية العربية لا حاجة من إرفاق صفة ذم بكلمة «يهود»، إذ الكلمة بحد ذاتها هي صفة ذم.
وأبو مازن قد تجاوز في كلامه خطاً أحمر. كان بشار الأسد عام ٢٠٠١ وهو حديث العهد بدوره كحاكم مستبد قد أتحف ضيفه المسنّ البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته لدمشق بسرد مسهب من الأقوال التي تنمّ عن الأصول المختلفة للخطاب المعادي لليهود في الثقافة العربية المعاصرة، فأدرج ما هو منتخب من النصوص الدينية الإسلامية ومن الأدبيات السياسية المعادية للصهيونية بالإضافة إلى التصاوير المستقاة من السردية الأوروپية «المعادية للسامية». وبعد قرابة العقد من السنين، عام ٢٠١٠، أبدى محمد مرسي، القيادي في الإخوان المسلمين والرئيس المصري المنتخب في وقت لاحق، غضبه للأعمال الحربية الإسرائيلية في غزة من خلال استدعاء عبارات مبتذلة من القدح والطعن بحق اليهود. ولكن لا الأسد ولا مرسي من الذين عوّل عليهم أن يكونوا قادة مستنرين يسيرون ببلادهم ومنطقتهم إلى المستقبل الأفضل. أما أبو مازن، ورغم بعض التصريحات الملتبسة السابقة، فإنه الرئيس الفلسطيني الذي كان من المتوقع أن يتجاوز ضجيج الثقافة السياسية المأزومة وأن يدفع مجتمعه باتجاه حل موضوعي لمصابه.
وتصريحاته الأخيرة هي أكثر من مجرد إنكار أو مراجعة للتاريخ. ثمة خصوصية فادحة للمحرقة التي تعرّض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية. ستة ملايين إنسان يهودي قضى نحبه في خضم هذه الحرب التي أودت بأكثر من خمسين مليون ضحية. والخصوصية هي أن هذا الإنسان اليهودي كان الهدف المتعمد للملاحقة والاعتقال والوشم وصولاً إلى القتل ليس لأنه يشكل تهديداً أو يضّلع بدور معادٍ ما، بل لهويته وماهيته. ففي بلدة بعد الأخرى، كان حصاد هؤلاء الناس وشحنهم للإبادة في مخيمات القتل، ليس الصرافين والمرابين منهم دون غيرهم، بل كذلك كل صبي مطهّر، وكل طفلة، وكل رجل، وكل امرأة، وكل مسنّ ومسنّة، كل عازف وكل فنان، كل عامل وكل تاجر، كل مهندس وكل طبيب، أي كل إنسان ثبت «تلطّخه» بأصل يهودي. والساعي إلى قتل هؤلاء كان عقد العزم علناً وصراحة لسعيه، واستجمع القدرات لفعله، وكاد أن ينجح بتحقيق كامل غرضه، ففتك بالغالبية من أفراد المجتمعات اليهودية في أوروپا مخلفاً وحسب قلة قليلة من الناجين في حالة من الترويع الدائم والصدمة الساحقة.
فأن تغيب وطأة هذه الحقيقة عن محمود عباس ، بعد سنين العمر من التواصل مع نظراء يهود، هو أمر مؤسف ويزيد. فأن «تفسّر» المحرقة على أساس «الدور الاجتماعي»، هو من باب إيجاد الأعذار للإبادة، بل هو تبرير لتكرار القتل في بيئة تبدو تواقة له، وإن كانت عاجزة عنه.
أبو مازن اعتذر متوجهاً لمن أساءت إليه تصريحاته. ولكنه لم يتطرق إلى مضمون هذه التصريحات. ويمكن، من باب إحسان الظن، الافتراض بأنه قد أساء التعبير، وأن إدراكه لحساسية الموضوع في الوعي اليهودي، كان قاصراً وإن كان في الأمر غرابة. وعندها، ولكي يكون الاعتذار ذا معنى، ليت الفرصة تكون لتعليم الثقافة السياسية العربية حول الجراح العميقة في التاريخ اليهودي، وليت المعلّم هنا، والناقض للتصوير  المسيء لليهود في عموم المنطقة، يكون محمود عباس نفسه. وإلا فالواقع أن أبو مازن قد أضرّ ضرراً دائماً بصدقيته كشريك للسلام، وقد قدم لإسرائيل سبباً إضافياً كي لا تسعى إلى هذه التسوية الهاربة أبداً

ذ.حسن منيمة

المصدر : معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
washingtoninstitute.org

السيناريو القادم : اسرائيل و الأكراد مقابل العرب والإيرانيين والأتراك.



Ajouter une légende

على مدى عقود من الزمن، اتهُم الكُرد بدعمهم إسرائيل ومعارضة القضية الفلسطينية. وإلى جانب النزاع العرقي، فإن القضية الحقيقية بين الكُرد والعرب هي أن أحد الأطراف يريد جر الآخر إلى المشاركة في حروبه. وفى الوقت عينه، تحاول بعض وسائل الإعلام العربيّة وأحياناً التُركية والإيرانيّة تبرير الجرائم الّتي يتعرض لها الكُرد منذ عقود في سوريا والعراق وتركيا وإيران.  وعلى الرغم من ادعاء أنقرة دوماً أنها تحارب إسرائيل، إلا أنها تواصل في خط موازٍ إرسال قوافلها التجارية إلى إسرائيل، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 4 مليار دولار في العام 2017. 
ويجدر الإشارة هنا إلى أن الكُردي ليس عربياً وليس مجبراً ولا مطلوباً منه إعلان عداوته لأعداء العرب. ثم ثانياً، لماذا يجب أن يكون الكُردي ضد إسرائيل بسبب احتلالها للدولة الفلسطينية أو للجولان، بينما لا يُفرض الأمر ذاته على العرب، باعتبار أن تركيا بالنسبة للكُرد هي دولة تحتل أراضيهم، ورغم ذلك لم يسمع يوماً أن الكُرد طالبوا الشعوب العربية أو الدولة السورية والعراقية بإعلان العداء للأتراك أو بطرد السفراء الأتراك من دمشق أو بغداد.
أن العرب بغالبيتهم والسوريين المعارضين لنظام بشار الأسد بشكل خاص، يرون إسرائيل وحدها دولة احتلال، في حين أن تركيا تحتل مساحة جغرافية كبيرة من سوريا قديماً مثل لواء اسكندرون وجرابلس والباب وعفرين حديثاً. هذا ناهيك عن الاحتلال العثماني للبلدان العربيّة لعدة قرون. وربما يكون التبرير الأوضح لذلك هو أن تركيا دولة إسلاميّة.
ومن ثم، فان من يتضامن مع الفلسطيني ضد إسرائيل، عليه أن يتضامن مع الكردي ضد تركيا ودول أخرى تحتل أراضيه، وإلاّ فإننا سنكون أمام معادلة مليئة بالازدواجية في التعامل مع شرعية حقوق الإنسان والحريات والمعتقدات.
وبالتالي، كيف يمكن لمن يطلب من الآخر أن يكون ضد إسرائيل لجرائمها على شعبه وأراضيه، أن يقف مع آخرين مارسوا أبشع الجرائم وأعنفها ضد الكُرد في التاريخ المعاصر؟ وأعني بهم غالبيّة النخب العربيّة الّتي تُعادي إسرائيل دوماً وترحبُ بتركيا أينما كانت.
والملفت أن مظاهر الصراع العربي - الإسرائيلي بدأت في التلاشي بين اغلب المسؤولين العرب وذلك واضحاً مع وجود السفارات الإسرائيلية وقنصلياتها في عددٍ من العواصم العربية مثل القاهرة وعمّان، ورغم ذلك لا تتوانى بعض وسائل الإعلام والنخبّ العربيّة وقضيتها من وصف كُردستان المُحتمل قيامها في المنطقة بـ "إسرائيل الثانيّة" رغم البعد الجغرافي بين إسرائيل ومناطق الكُرد في كل من سوريا والعراق وإيران وتُركيا، ورغم عدم وجود أيّ علاقات إسرائيلية ـ كُرديّة رسميّة كانت أم ديبلوماسيّة ثابتة وواضحة.
وما يثير الحيرة حول هذه الصفة الملتصقة بالكرد عند بعض العرب، هو عدم وجود أسباب أو براهين واضحة لإطلاقها عليهم، فالكُرد يعيشون على أرضهم التاريخية بعد اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916، والتي قسّمت بلدهم بين أربعة دول، فإذا ما قمنا على سبيل المثال بإزالة الأسلاك الحدودية بين سوريا وتركيا في كوباني مثلاً، سنجد عائلات كُرديّة مقسّمة بين دولتين وفي كلّ دولةٍ منها يعيش عدداً من أفراد نفس العائلة الكُرديّة، كذلك الأمر بالنسبة إلى العراق وإيران، حيث يتعرّضون دائماً للقمع وتربطهم هذه العلاقات الأًسريّة.
أمام هذه الاتهامات العنصريّة اليوميّة ضد الكرد وقضيتهم التي تُعد من أعقد قضايا الشرق الأوسط، لا بدّ من التذكّير مرةً أخرى، أن إسرائيل لم تكن يوماً إلى جانب الكُرد، لكنها أيضاً لم تحاربهم بشكل مباشر كما تفعل الأنظمة الأربعة، إما عسكرياً كما حصل في عفرين مؤخراً أو معنوياً بمنع لغتهم وثقافتهم كما هو الحال في سوريا، مع الإشارة إلى أن عشرات المقاتلين الكُرد اليساريين قاتلوا ضد إسرائيل في فلسطين وجنوب لبنان مع فصائل عسكريّة فلسطينيّة، وكانوا في غالبيتهم من مقاتلي حزب العُمال الكُردستاني ذو التوجّهات اليساريّة في الثمانينات من القرن الماضي.
ومن المهم في هذا الصدد، العودة لمرحلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي في نشأتهِ الأولى، أثناء الحروب التي نشبت بين الطرفين في فلسطين والجولان ولبنان وسيناء والأردن من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، وكل المجازر التي قامت بها في تلك الفترة والدمار والتهجير، إلا أن سكان تلك الدول والمناطق من الفلسطينيين لم يكونوا دون أوراق ثبوتية، بل كانوا يتنقلون ويسافرون عبر وثائق سفر مؤقتة أو دائمة تصدر عن سلطات بلادهم أو سلطات الدول التي لجأوا إليها كما هو حالهم في سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر وغيرها من الدول الأخرى، بل إن إسرائيل منحت غالبيتهم جنسية دولتها، حتى أن بعض النخب الفلسطينية اليوم تحمل جوازات سفر إسرائيلية ومنهم منْ يدير مؤسسات إعلاميّة عربيّة تؤيد ثورات الربيع العربي والإسلامي السياسي المُعتدل والراديكالي أيضاً. يضاف إلى هذا الأمر، أن السلطات الإسرائيلية خلال صراعها مع العرب، لم تمنع الفلسطينيين يوماً واحداً من حق التكلّم والتداول بلغتهم الأم "العربيّة"، على عكس ما عاشه الكرد في أراضيهم.
وفى ظل  الصراع العربي ـ الإسرائيلي الحالي والّذي يظهرُ حالياً على شكلٍ حربٍ إعلامية فقط على بعض وسائل الإعلام العربيّة وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي، كان القادة العرب ووسائل إعلامهم يحاربون إسرائيل ـ العنصريّة والمحتلّة ـ كما يصفونها، في حين أنهم في الوقت ذاته في سوريا والعراق وعبر نظام هاتين الدولتين، كانوا يحرمون الكُرد من أبسط حقوقهم المدنيّة ومنها منعهم من حق التكلم والتداول بلغتهم الكُرديّة، حيث كان الكُرد في سوريا يعيشون دون أوراق ثبوتية، وكانت السلطات السورية لا تعترف بوجودهم أصلاً، رغم أنهم يعيشون على أرضهم التاريخية، حتى أن بعض الممارسات العنصريّة للدولة السوريّة كانت ترغم بعض الكُرد ممنْ كانوا يحملون الجنسية السورية على كتابة أنهم "عرب سوريون" في بعض الوثائق التي كانوا يطلبونها من الدولة وفي شهادات ميلادهم.
هذا عدا عن تعريب أسماء المدن والقرى والبلدات الكُرديّة في سوريا ناهيك عن العراق، والتي عَمِلَ النظامين السوري والعراقي على تغيير ديموغرافية المناطق الكُردية فيها من خلال توطين عائلات عربيّة في مناطقهم سواءً في شمال سوريا أو العراق الّتي ربّما لن يتوقف فيها صراع المناطق المتنازع عليها بين أربيل وبغداد اليوم.
وفي هذا السياق، يمكننا العودة لأرشيف المجازر الدموية التي نفذتها إسرائيل بحق الشعوب العربية في فلسطين المحتلة، والجولان، ولبنان وسيناء، والأردن، والتي رغم قساوتها وظلمها إلا أنها لا تضاهي المجزرة الكردية التي راح ضحيتها في أقلِ من نصفِ ساعة خمسة آلاف مدني إثر السلاح الكيماوي الذي استخدمه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ضدهم في العام 1988 بمدينة حلبجة في إقليم كُردستان العراق.
وفي السياق نفسه، لا يمكن إغفال الجرائم والعنف ضد الكُرد في تُركيا التي قالت يوماً، إن "كلمة الكُردي في اللغة التُركية تعني وقع أصواتِ أقدامِ جنودنا على الثلج"، في محاولةٍ منها لتصغير الكُرد. وهذه الإهانة لم تتوقف هنا، بل تواصل السلطات التركية حربها على الأراضي الكردية من خلال هجومها المبرمج والمنظم على مدينة عفرين بداية العام الحالي، حيث نجحت بمساعدة بعض المقاتلين من المعارضة السورية أن تحتلها وتهجر سكانها، وتقتل المئات بنيران طيرانها الحربي، دون أن يكون هناك أي موقف عربي واضح يستنكر هذه الجرائم ويطالب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بالتراجع والتوقّف عن قتل المدنيين في منطقة تتمتع بحكمٍ شبه ذاتي داخل الحدود السورية.
ولكن استبداد واحتلال هذه الأنظمة الثلاث وممارساتها العنصريّة ضد الكرد لا تختلف أبداً عن الدولة الإيرانية التي تعدمُ الكُرد بشكلٍ شبهِ يومي، فقط لأنهم يطالبون بحقهم في الحياة في أرضهم.
وإزاء كل ما ذكر أعلاه، نجد من الصعوبة مقارنة كل ما تعرّض له الكُرد في مناطقهم، بما عاشه الفلسطيني في إسرائيل أو في الشتات خلال فترة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبالتالي لا مبرر لدى غالبية هؤلاء العرب في إعلان العداء للكردي، ولا يوجد وجه حق في أن يطالبه بإعلان العداء المطلق والأعمى لإسرائيل كشرط لتضامنه معهم، لا سيما وأن الأنظمة العربية تقف بصمت إزاء الاحتلال التركي الحاصل اليوم، ولم يعلن أي عربي العداء، المطلوب فقط من الكردي، ضد السلطات التركية التي تقتل وتذبح وتشرد أهالي سالمين في عفرين تحت ذريعة طرد "الإرهاب".
وباعتقادي كحلّ لمثل هذه المشاكل الّتي تقف عائقاً في وجه التعايش المشترك بين أبناء هذه الدول التي تقمّع الكُرد، على النخب العربيّة حين تقف مع الكُرد ألّا تضع شروطها الخاصة وتلعب دور الوصي عليهم. كذلك الأمر بالنسبة للكُرد، حين يكونون مع قضيّة عربيّة، عليهم ألّا يملوا شروطهم على الطرف الآخر. ولكن إذا استمر الوضع القائم والصمت المطبق على الظلم والتجاوزات التي تحصل وتتكرر بحق الكرد في سوريا والعراق وتركيا وإيران، سيكون من الطبيعي أن يتمنى الكُردي، لو أن إسرائيل هي الّتي احتلتْ أرضه عوضاً عن العرب  والإيرانيين والأتراك

جوان سواز
صحافي كُردي ومدافع عن حقوق الإنسان و مقيم بفرنسا


المصدر : معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
washingtoninstitute.org
.

من يحب السيسي بعد شعب ''الكنبة'' ؟



خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة بمصر؛ نشر مؤيدي ومعارضي السيسي صور لمراكز اقتراع محتشدة وأخرى للجان فارغة. ولم يكتفى معارضي السيسي فقط بنشر صور اللجان الفارغة وقصص الحشد الإجباري من قبل الجهاز الحكومي؛ بل إنهم تحركوا أبعد من ذلك، متهمين كل من شارك أو صوت بأنه "قواد، أفاق، مرتزق، ووصولي."
وترسخ تلك الاتهامات في الأذهان صورة لرجل يحكم بالحديد والنار، وأن أي شخص يدعمه إما خائف أو مقموع أو باحث عن مكاسب شخصية. ولكن ليس من الدقة أو النزاهة القول بأن السيسي لم يعد لديه أي دعم شعبي؛ فالاعتقاد بأن كل مؤيد للسيسي هو "قواد" وصولي؛ هو اعتقاد خاطئ، ولعل ما ساهم في خلق ذلك الانطباع عن أنصار السيسي هو طريقة تعامل الإعلام، فكثير من الذين يملؤون الشاشات وصفحات الجرائد مدحا في الرئيس اليوم، هم أنفسهم من سبحوا بحمد الإخوان، ولو تولى الحكم غدا، يساري فسوف ترى أغلبهم يحملون صور ماركس يطوفون بها الشوارع.
إن هؤلاء "الإعلاميين" ليسوا سوى مؤيدين للسلطة بغض النظر عن صاحب هذه السلط، ولذلك لا يمكن التعويل عليهم أو حصر أنصار السيسي عليهم، فهناك أطياف أوسع من المجتمع تقف معه لأسباب مختلفة. ولفهم المشهد السياسي المصري الراهن؛ يستوجب علينا   تقسيم تلك الأطياف بشكل يسمح لنا بالوقوف على حقيقة الأسباب الكامنة وراء دعمهم للرجل. وتشمل تلك الأطياف العاملين بمؤسسات الدولة خاصة (الشرطة، الجيش، القضاء)، والأقباط، وحزب الكنبة.
أولاً: مؤسسات الدولة
1- الشرطة
يمثل رجال الشرطة وأسرهم نسبة لا بأس بها من الشعب، فهم وأسرهم يشغلون مراكز مؤثرة وحساسة في الشارع. أغلب رجال الأمن يدينون بولاء للرجل الذي أعاد لهم هيبتهم في الشارع التي تآكلت بفعل ثورة 25 يناير وما تلاها من حرق مقرات الداخلية، الهيبة التي تعد أبرز ما تميز به الضباط على مر العصور في مصر، واستعادتها يمثل نوعا من "الجميل"؛ يستوجب تقديم الشكر والعرفان للسيسي من الضباط وأسرهم على حد سواء.
2- القوات المسلحة
ضباط وصف ضباط القوات المسلحة وأسرهم لديهم أسباب أخرى لدعم السيسي وتأييده، فالرجل رفع مرتباتهم بشكل ملحوظ، كما أنه أعاد ترتيب هرم القيادة مرة أخرى، معيدا للبذلة العسكرية مكانتها التي فقدتها، لصالح الداخلية في الشارع خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، والأهم من ذلك، أن السيسي نجح في ربط نفسه "كحاكم" بالمؤسسة العسكرية، وبذلك ترسخ شعور في العقل الجمعي أنه "واحد مننا"، وعليه فدعمه وتأييده من وجهة نظرهم، هو واجب وطني يتجاوز شخصه، لأنه دعم للدولة وللجيش الذي يحميها في الأساس.
3- القضاء
هناك أيضا شريحة  تشمل القضاة ووكلاء النيابة، والذين من المفروض عليهم عدم الاقتراب من السياسية وأهلها، بل و"محرم" عليهم  التورط فيها، إلا أن التوسع في أحكام الإعدام  والحبس في قضايا ذات طابع سياسي، بشكل غير مسبوق (900 حكم إعدام خلال 4 سنوات)، خلق انطباعا لدى البعض أن القضاة يقفون مع الرئيس، و يدعمونه في صراعه ضد معارضيه، وقد تعزز هذا الشعور؛ بما ترسخ في السابق من صدام علني  بين القضاء والرئيس الأسبق محمد مرسي إبان فترة حكم، والذي وصل إلى حد محاصرة المحكمة الدستورية  في يناير 2013 من قبل أنصاره  الذين منعوا يومها، القضاة من الدخول ومباشرة عملهم؛  للفصل في  الدعوى المطالبة ببطلان مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور.
ثانياً: الأقباط
السواد الأعظم من الأقباط يؤيد الرئيس السيسي، بل ويحبه، فالرجل يمثل لهم "المُخلص" من خطورة حكم الإسلاميين، التي دفعت الكثير منهم لترك البلاد؛ بعد ثورة 25 يناير وصعود تيار الإسلام السياسي الذي أصبح آنذاك، متصدرا للمشهد السياسي، في عام 2012، حيث دعا السلفيون بعدها إلى مليونيه "الحفاظ على الهوية الإسلامية لمصر". وقد كان ذلك المشهد مرعبا للأقباط، وهم يرون الأعلام السعودية والرايات السوداء ترتفع في التحرير، ومنظر اللحى والجلابيب القصيرة، وهتافات "قادم، قادم يا إسلام" تصم الآذان. فوصول الإخوان للحكم، وسيطرتهم مع السلفيين على البرلمان كلها عوامل ساهمت بشدة في ذعر الأقباط، وتعاملهم مع السيسي كمُخلص لهم. ومن جانبه، نجح السيسي في تقديم خطاب أفضل من سابقيه للأقباط، فهو يتحدث عنهم بمودة أكبر، مؤكدا دوما، على أنه مسؤول عن كل قبطي يذهب للكاتدرائية في الأعياد، كما أنه كان دائم التأكيد أمام الكاميرات، على أن يكون بناء الكنائس في المدن الجديدة متاحا.
وباختصار، لقد نجح الرجل في إرسال رسائل طمأنة للقطاع الأكبر من الأقباط، وبذلك ضمن ولاءهم ككتلة داعمة لا يستهان بها، وطبعا، هناك نسبة من الأقباط المعارضين له، أغلبها من الشباب الذين يغلب عليهم الميل الثوري، ومن الرافضين لسطوة الكنيسة والدولة، لكن الغالبية العظمى من الأقباط يدعمون الرئيس ويحبونه.
ثالثاً: حزب الكنبة
أما حزب الكنبة، فهم الكتلة الأهم والأكبر بين أنصار السيسي، ولقد أطلق عليهم الإعلام هذا اللقب "حزب الكنبة"؛ للدلالة على أولئك الأشخاص العاديين غير المنخرطين في الحياة السياسية أو المشتبكين بقوة مع الشأن العام. والذين غالبا ما تكون روافدهم المعرفية هي بالأساس، برامج "التوك شو". فهؤلاء لا يُدفعون إلى الإذعان السياسي بسبب الخوف من الاعتقال أو التصفية، إذ لا يشكلون تهديدًا أمنيًا بأي شكل من الأشكال يبرر استهدافهم. فهم لهم مخاوف أخرى: منهم فصيل يخشى أن تواجه مصر مصير سورية والعراق، حيث شبح الحرب الأهلية ومناظر طوابير اللاجئين. لقد ربطوا - بفعل الخوف والإعلام - بين الثورة والحرب الأهلية، لتصبح كلمة "التغيير" مرعبة منبوذة، حلت محلها كلمة "الاستقرار"، وتم بشكل مباشر ربط الاستقرار بالجيش الذي تم ربطه بالسيسي، لتصبح القناعة المترسخة في العقل الجمعي، أن وجود السيسي (ومعه الجيش) هو الضمان الوحيد لحماية البلاد من مصير سوريا والعراق، وعليه فدعمه السيسي هو دعم لبقاء مصر وحمايتها.
وهناك فصيل آخر أصابه الذعر من برلمان اللحى والآذان، حيث انتابهم شعور بأن مصر على مشارف التحول لإيران أخرى. نسبة كبيرة من هؤلاء كانت من مؤيدي الثورة، لكن بعد مضى عامين وشعورهم أنها سرقت من قبل الجماعات الإسلامية التي لا تقبل بالدولة المدنية والتي تسعى إلى فرض حكم ديني في مصر؛ دفعهم إلى دعم حركة "تمرد" وإلى الانضمام إلى التظاهرات المناهضة التي أدت إلى الإطاحة بحكم الإخوان. هذا الفصيل يميل إلى السيسي ويؤمن بأن غيابه يعني عودة الإخوان، خاصة مع اندحار "التيار المدني" الذي لم يستطع حتى تقديم تصور متماسك عن المستقبل.
إننا اليوم، أمام رئيس مدعوم بمؤسسات حيوية وهامة، فرغم تردي الأوضاع الاقتصادية في عهده والتي أثرت بشكل كبير على شعبيته، إلا أنه مازال يحظى بتأييد نسبة غير قليلة من الأقباط والأغلبية المسلمة. المفارقة هنا، هو إصرار معارضيه على أنه يحكم بقوة السلاح فقط، من غير أي ظهير شعبي، والأغرب من ذلك، أنهم بدلا من التحرك في المناطق الدافئة لجذب أنصار جدد، فإنهم يعملون على سب وشتم كل من يؤيد السيسي، ونعته بالنفعي والوصولي، متجاهلين أن الخوف من الحكم الديني أو مصير سورية والعراق هو خوف طبيعي منطقي له ما يبرره، ويقتضي خطاب الطمأنة والشروحات الهادئة الرزينة بدل خطاب الشتم والسخرية.


المصدر : معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
washingtoninstitute.org

الانفجار القادم.



يهدد الوضع المتأجج في الشرق الأوسط بالانفجار مرةً أخرى. لنتأمل ما حدث في الأسابيع الأخيرة: تبادل مباشر لإطلاق النار في سوريا بين إسرائيل وإيران، وانسحاب الرئيس الأمريكي من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، أي الاتفاق النووي مع إيران، وافتتاح السفارة الأمريكية في القدس، والمظاهرات التي تقودها «حماس» في غزة والتي سعت إلى خرق الحدود الإسرائيلية لكن دون جدوى، مما أسفر عن مقتل عشرات الفلسطينيين.
ومن غير المحتمل أن تكون أي من هذه التطورات محدودة الوقت أو النطاق. لذا تتطلب على الأقل سياسةً أمريكيةً واضحة.
إن ما قدمه الرئيس ترامب حتى الآن هو خطب بليغة أكثر من كونها عملية. ومن السابق لأوانه معرفة ما إذا كان [تعيين] وزير خارجية ومستشار للأمن القومي جديدين سيغيّر ذلك. ولكن ما لم تبدأ واشنطن بمحاولة بنّاءة وسريعة لصياغة الأحداث بدلاً من الرد عليها، فسيتفاقم الوضع في الشرق الأوسط لا محالة - ومن المحتمل أن يجرّ معه الولايات المتحدة في ظل ظروف أسوأ.
لكن قبل أن نغوص في المعضلة الراهنة، لنرجع خطوةً إلى الوراء ونقيّم النهج الأمريكي في المنطقة في السنوات الأخيرة. فلأسباب مفهومة، ركّزت إدارتا أوباما وترامب بشكل كبير على الإطاحة بتنظيم «الدولة الإسلامية». وكانت تلك المعركة ضروريةً وأتت بثمارها، لا سيّما خلال العام الماضي. ولكن بينما كان انتباه واشنطن ينصبّ على تنظيم «الدولة الإسلامية»، عملت إيران على توسيع نطاق انتشارها. وأصبح الآن المرشد الأعلى علي خامنئي يشير إلى سوريا ولبنان على أنهما جزء من الدفاع الأمامي لإيران. فالجمهورية الإسلامية لا ترسّخ نفسها في سوريا فحسب، بل تبني جسراً برياً يربطها بالبحر المتوسط ويمرّ عبر العراق وسوريا ولبنان. كما تستخدم إيران المليشيات الشيعية الوكيلة من أماكن بعيدة مثل أفغانستان وباكستان في سوريا.
وبالطبع، يبقى «حزب الله» وكيلها المفضل، مع عناصر يبلغ عددها ٧ آلاف مقاتل في سوريا، إلى جانب الدور الذي يؤديه الحزب في اليمن والعراق من تدريبات وتجميع للأسلحة ودعم عسكري. كما يعمل «حزب الله» عن كثب مع «فيلق القدس» - الذراع التنفيذي لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني - في جميع هذه المناطق. وقد تفاوت الدعم الإيراني المادي لـ«حزب الله» - فعندما كانت إيران ترزح تحت وطأة عقوبات شديدة من الأمم المتحدة، انخفض الدعم إلى ٢٠٠ مليون دولار في السنة تقريباً. أمّا بعد توقيع «خطة العمل الشاملة المشتركة» فقد عاد ليرتفع إلى حوالى ٨٠٠ مليون دولار.
ويحبّ ترامب إلقاء اللوم على الاتفاق الذي توصل إليه أوباما مع إيران معتبراً إياه السبب وراء كل هذا التدخل الإيراني، لكن هذا التفسير شديد البساطة. فالحقيقة هي أن إيران أصبحت أكثر عدوانيةً في عهد ترامب، بينما لم تفعل إدارته شيئاً لوقف ذلك. وقد ساعد الرئيس الأمريكي في الواقع، بتنازله عن أجزاء كبيرة من سوريا إلى روسيا، على جبهة واحدة على الأقل، في تشجيع الملالي في طهران.
وأصبح تفضيل إيران العمل من خلال وكلائها وتهديد الآخرين بشكل غير مباشر هو النمط السائد. لكن في شباط/فبراير من هذا العام، تصرّف «فيلق القدس» على غير عادته، حيث أطلق طائرةً مسلّحة بدون طيار من سوريا إلى المجال الجوي الإسرائيلي. وبإرساله طائرته الخاصة بدون طيار، اختار «فيلق القدس» أن يتحدى الإسرائيليين بشكل مباشر.
وبعد أن أدركت إسرائيل أنه يجري تجاوز الحدود المرسومة، أطلقت النار على الطائرة بدون طيار ودمّرت عربات القيادة والتحكم الإيرانية التي أطلقت الطائرة ووجهتها من "قاعدة التياس" (T-4) الجوية العسكرية في وسط سوريا. وعند خسارة إحدى طائراتها المقاتلة من طراز "أف - ١٦" فوق المجال الجوي الإسرائيلي جراء وابل من صواريخ أرض-جو، قامت إسرائيل بعد ذلك بتدمير قرابة نصف الدفاعات الجوية السورية دون أن تفقد أي طائرة أخرى. وكان الإسرائيليون يحاولون التلميح إلى الإيرانيين والروس أيضاً - بأنهم لن يتسامحوا مع إيران التي تهددهم بصورة مباشرة بدرجة أكبر.
إلا أنّ هذا كان مجرد تمهيد للتبادل العسكري الأخير. ففي ٩ نيسان/أبريل، قامت إسرائيل مرةً أخرى بضرب عدد من الأهداف الإيرانية، ليس فقط لملاحقة قدرة إيران على إطلاق طائرات بدون طيار، بل صواريخ أيضاً. وعادة لا تعترف إسرائيل بهذه الضربات أبداً، إذ تدرك أنه إذا ما أُشيد بها علناً، فمن شأن ذلك أن يضع الإيرانيين في موقف يضطرهم إلى الرد وإلا فسيخسروا ماء الوجه. لكن روسيا "كشفت" الإسرائيليين - وكان هذا مهماً لأنه ما لا يقل عن سبعة من ضباط «فيلق القدس» كانوا قد قُتلوا في الضربة الإسرائيلية. وعلماً منهم أن إيران قد تضطر إلى الرد، اختار الروس أن يفضحوا الاسرائيليين على أي حال - مما يشير دون أي شك إلى أنهم لم يكونوا راضين من عدم تحذيرهم مسبقاً عندما كان الروس موجودون في القاعدة نفسها. ولم يكن مفاجئاً أن يؤدي هذا الكشف إلى دفع إيران إلى الإعلان بأنها ستقوم بردّ انتقامي.
وقد جاء ذلك الرد بعد يوم واحد من انسحاب الرئيس ترامب من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ولم يكن ذلك التوقيت مجرد صدفة. فقد امتنعت إيران [قبل ذلك] عن القيام بأي خطوة، إذ لم ترغب أن تستخدم إدارة ترامب [ما كانت ستقوم به] كسبب للانسحاب من "الاتفاق النووي". ولكن بعد تحريرها من هذا الهاجس، أطلقت صواريخها على إسرائيل. وقد اعترضت "القبة الحديدية" الإسرائيلية أربعة صواريخ إيرانية اخترقت المجال الجوي الإسرائيلي، بينما سقطت الصواريخ المتبقية في سوريا. ولإثبات أن الإيرانيين سيدفعون ثمناً باهظاً، ضرب الإسرائيليون عدة قواعد إيرانية وشيعية في جميع أنحاء سوريا ودمّروا، على حد تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، الكثير من البنية التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا.
أما في الوقت الحالي، فمن الواضح أنه ليست هناك نية لدى الإيرانيين بمواصلة التصعيد مع إسرائيل. فطبيعة الرد الانتقامي الإيراني، أي إطلاق النار على المواقع الإسرائيلية في هضبة الجولان فقط وليس على الأهداف المدنية في البلاد، هو خير دليل على ذلك. فالإيرانيون منشغلون جداً في تعزيز مكانتهم في سوريا لدرجة أنهم لا يريدون ضرب إسرائيل في الوقت الراهن. إلّا أنّ هذه الصورة لا ينبغي أن تضلّل أحد، فإسرائيل وإيران على مسار تصادمي. فقد عقدت إيران العزم على ترسيخ نفسها في سوريا، في حين لا تقل إسرائيل إصراراً على ضمان عدم قدرة إيران على تأسيس وجود لها في سوريا على غرار ما فعلته في لبنان، حيث يمتلك «حزب الله» اليوم أكثر من ١٢٠ ألف صاروخ. ولا بد من تداعي الوضع [العسكري]. وفي هذه المرحلة، يبدو أنها مسألة وقت فقط قبل اندلاع مثل هذه الحرب.
وللأسف، من السهل تصوّر بداية هذه الحرب، ولكن ليس نهايتها. أقول ذلك لأن إيران تعتقد أن بإمكانها أن تهدد إسرائيل من سوريا ولبنان والوقوف في مأمن من الصراع. غير أن إسرائيل لن تسمح لإيران بتنظيم حرب ينهال عليها ما بين ١٥٠٠ إلى ٢٠٠٠ صاروخ في اليوم، بينما تبقى إيران بمنأى عن ذلك كلياً. وفي مثل هذه الظروف، ستضرب إسرائيل إيران بطريقة مصمّمة بحيث تلحق بها أضراراً كبيرة، أي ربما تضرب المنشآت النفطية الإيرانية. عندئذٍ، قد يختار الإيرانيون الرد على السعودية أو أي مكان آخر في الخليج. وبدلاً من انتظار تحقُقْ مثل هذا السيناريو، ينبغي على واشنطن العمل على إيقافه.
لكن الولايات المتحدة لا تزال تتّخذ موقف المتفرج في الوقت الحاضر. أجل، لقد قدّمتْ عرضاً كبيراً بنقل سفارتها إلى القدس، إلّا أنّها تترك الأمر للإسرائيليين لصد الإيرانيين في سوريا. لقد تركتْ واشنطن إسرائيل في وضع يتطلب منها استخدام القوة بدلاً من الحوار للتأثير على الإيرانيين والروس.
وليس من قبيل المصادفة أن يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حتى الآن بزيارة فلاديمير بوتين ثماني مرات خلال العامين الماضيين. أجل، لقد هدفت هذه الزيارات إلى تفادي الصراع مع القوات الروسية، ولكن أيضاً إلى محاولة إقناع بوتين باحتواء الإيرانيين في سوريا. وقد نجح نتنياهو إلى حد كبير في المسألة الأولى. ولكنه لم يفلح في الثانية. فقد منحت روسيا للإسرائيليين والإيرانيين حرية التصرف الكاملة - وهي حقيقة تجعل التصادم الذي يلوح في الأفق أكثر احتمالاً. 
وتقليدياً، كانت الولايات المتحدة ستعمل على إقناع الروس بأن أمريكا لن تقف مكتوفة الأيدي وتسمح باندلاع مثل هذا الصراع، مؤكدةً أنه إذا لم يتخذ الروس أي إجراء، فستقوم هي بذلك - وليس من خلال دعم إسرائيل فحسب، بل عن طريق الإشارة بوضوح إلى أنها ستقوم باستخدام قوتها الجوية لوقف توسع الإيرانيين ووكلائهم بدرجة أكبر في سوريا. وآخر شيء يريده بوتين هو أن تظهر القدرة الأمريكية كقوة محرّكة للأحداث في المنطقة. فهذا هو دوره، ويبدو أنه ينجح فيه.
لكنّ الرئيس ترامب لا يبدو منزعجاً من هذا الاحتمال. فهو يشبه الرئيس أوباما إلى حد كبير، حيث لا يريد أن يتدخل كثيراً في الصراع السوري؛ وفي رسالة تم نشرها على نطاق واسع، ذهب إلى الحد الذي دعا فيه السعودية والإمارات إلى توفير الأموال وإرسال القوات إلى ميدان المعارك لمنع إيران من ملء الفراغ بعد أن تلحق الولايات المتحدة الهزيمة بتنظيم «الدولة الإسلامية». إنها رغبة مفهومة، لكن لا السعوديين ولا الإماراتيين سيؤدون هذا الدور ويُعرّضون أنفسهم [إلى الكثير من المخاطر] إذا ما انسحبت الولايات المتحدة - وقد أوضح ترامب أن هذا هو ما يعتزم القيام به.
ويبدو أن الوقوف على الجانب هي السياسة الرئيسية التي تتبعها الولايات المتحدة حالياً في الشرق الأوسط. فقد اتخذت خطوةً طال انتظارها ونقلت سفارتها إلى القدس، ولكن واشنطن لا تمهّد الطريق مسبقاً مع شركائها العرب المفترضين من خلال معرفة ما يمكن أن تقوله لكي تفسح لهم المجال لدعم خطواتها - أو على الأقل لعدم معارضتها. وكما أخبرني أحد المحللين العرب مؤخراً: "لو قال الرئيس [الأمريكي] على الأقل إنه يعترف أن لدى الفلسطينيين مطالب في القدس الشرقية لا بد من التفاوض بشأنها، وأنه لهذا السبب لم يعترف بحدود السيادة الإسرائيلية، لكان قد منحنا شيئاً نشير إليه". بمعنى آخر، أن ذلك كان سيسهَّل على العرب لعب دور ما عندما تعرض الإدارة الأمريكية خطتها للسلام - تلك الخطة التي يستلزم أن تكون الآن أكثر تحديداً حول القدس فيما يتعلق بصلتها بالفلسطينيين مما كان عليه الحال سابقاً. أما بالنسبة لتوقيت تلك الخطة، فسيتعيّن تغيير الظروف الراهنة قبل أن تتمكن الإدارة الأمريكية من عرضها. ويعني ذلك، من بين أمور أخرى، العمل لمنع حدوث انفجار في غزة.
وتعمل «حماس» بدرجة لا يستهان بها على صرف الانتباه بعيداً عن حكمها الفاشل في غزة والضغط على رئيس "السلطة الفلسطينية" محمود عباس. وقد توقف عباس عن سداد [ثمن] الكهرباء الذي تمد به إسرائيل قطاع غزة، وقلّص مرتبات العاملين السابقين في "السلطة الفلسطينية" في القطاع، كما هدّد بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية. بيد، تكمن المشكلة في أن الفلسطينيين في غزة هم الذين "يدفعون" ثمن [هذه التطورات] - فتوفير الكهرباء هو لأربع ساعات يومياً فقط، و [أزمة المياه تزداد سوءاً بحيث أن] ٩٦٪ منها غير صالحة للشرب، كما أن محطات معالجة مياه الصرف الصحي معطّلة، بينما ارتفعت نسبة البطالة بين الفلسطينيين دون سن الثلاثين لتصل إلى ٦٠٪. ومع ظروف سيئة للغاية كهذه، ليس لدى فلسطينيي قطاع غزة ما يخسرونه.
لنكون منصفين مع إدارة ترامب، فقد قامت بالفعل بتنظيم مؤتمر للمانحين من أجل غزة، إلّا أنّه لم يتحقق شئ منه. لذلك، فقد حان الوقت للعمل مع الأوروبيين والعرب لإصدار بيان يُعلن فيه عن وجود استعداد فوري لتنفيذ المشاريع الجاهزة المتعلقة بالمياه والصرف الصحي والكهرباء، إذا كان هناك هدوء في غزة. ونظراً إلى الجو السائد في القطاع، يدرك قادة «حماس» أنهم لا يستطيعون منع خطوات دولية جديرة بالثقة لمعالجة الظروف الاقتصادية الرهيبة في غزة بصورة فورية.
وقد يفضّل الرئيس ترامب إبعاد الولايات المتحدة عن نزاعات الشرق الأوسط، إلّا أن هذه الصراعات تعود لتطارد واشنطن. كما أنّ الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني لن يردع جهود إيران التوسعية في المنطقة. بل على العكس من ذلك، فعاجلاً أو آجلاً، سيؤدي هذا التوسع إلى اندلاع حرب أوسع نطاقاً. لذا فإن الخيار الذي تواجهه واشنطن هو الانخراط حالياً أو في وقت لاحق.

دينيس روس هو مستشار وزميل "ويليام ديفيدسون" المتميز في معهد واشنطن.

المصدر : معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
washingtoninstitute.org

بين السلفيين و الإخوان: حروب الأمس و اليوم.

Ajouter une légende

Ajouter une légende

منذ تولي الملك "سلمان بن عبد العزيز" الحك وتدور جدالات حول علاقة المملكة بالإخوان المسلمين، فهناك من يرى أن تولى سلمان مثل انقلاب على الإخوان، بينما يرى آخرون أن بعض مظاهر الفكر الاخوانى قد ظلت مؤثرة في البلاد. ومع مطلع عام 2015 أطلق " سعود الفيصل"، وزير خارجية المملكة العربية السعودية  الراحل، تصريحا دبلوماسيا مبهماً حيث قال "ليس لنا أي مشكلة مع الإخوان المسلمين، مشكلتنا فقط مع فئة قليلة تنتمي لهذه الجماعة، هذه الفئة هم من في رقبتهم بيعة للمرشد". جاءت تلك التصريحات تقريبا بعد عام من تصنيف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية من قبل المملكة العربية السعودية. وفى تناقض حاد، خرجت بعض التصريحات من قبل ولى العهد " محمد بن سلمان" تشير إلى انتهاء فترة شهر العسل بين الإخوان والسعودية.
تتطلب قراءة هذا المشهد الوقوف على التغيرات التاريخية التي طالت العلاقة ما بين الدولة السعودية وجماعة الإخوان المسلمين والتي تُظهر بصورة واضحة أن الصراع ليس فقط صراع مع الإخوان بقدر ما هو صراع بين ماضي ومستقبل المملكة في إطار معطيات الواقع، صراع ما بين الجذور السعودية الإسلامية بما تبعها من مشروع الوحدة الإسلامية وسعودية ولى العهد الإصلاحية.
"كلنا إخوان " هكذا قال مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز رداً على طلب مؤسس جماعة الإخوان المسلمين "حسن البنا" حين أراد إنشاء فرعٍ لجماعة الإخوان المسلمين في السعودية. وقد جاء هذا التقارب بين المملكة والإخوان آنذاك، بعد رفض مصر الاعتراف بالمملكة المنشأة حديثا، وعلى أثر هذا استقبل البنا استقبال حافل بالمملكة وبرزت عناوين الصحف الترحبية بزياته كما جاء في صحيفة أم القرى "حسن البنا، على الرحب والسعة". وحين تمّ حلّ الجماعة عام 1948، تلقى البنا دعوة للانتقال إلى السعودية، لكنه اغتيل بعيْد ذلك بفترة في شباط/فبراير من العام 1949. ومع ذلك، تواصلت العلاقة بين السعودية و"الإخوان المسلمين" وسمحت لهم المملكة بعقد اجتماعاتهم خلال موسم الحج من أجل اختيار المرشد الأعلى الجديد.
سار "سعود بن عبد العزيز" على نهج والده، وسار "الهضيبي"، المرشد الثاني للإخوان المسلمين على نهج البنا، واستمرت علاقات التقارب ما بين الطرفين، وترجمت تلك العلاقات في موقف " فيصل بن عبد العزيز" من الجماعة بصورة واضحة، فالملك ومشروع "الوحدة الإسلامية" كان في مواجهة "القومية العربية" والفكر الناصري.
علاوة على ذلك، فمنذ أواخر الخمسينات وحتى منتصف السبعينيات، التقت مصالح الدولة السعودية مع مصالح الإخوان وكانت القضية الفلسطينية حاضرة في خطابات المملكة والإخوان آنذاك، ففتح الملك "فيصل" باب المملكة على مصراعيه للإخوان المسلمين واعتمد "فيصل" على رموز الإخوان في العملية التعليمية في المملكة حتى ظهر "محمد قطب" شقيق المنظر الإخواني المتطرف "سيد قطب" بالمملكة كأحد المشاركين في العملية التعليمية، وتعد حقبة "فيصل" هي الأكثر مشاهدة لعلاقات ما بين المملكة والإخوان. حتى بعد اغتيال "فيصل" في عام 1975، وفي خلال هذا القرن أعلن بعض السعوديين بأن جماعة الإخوان المسلمين كانت على الأقل معتدلة نسبياً مقارنة بالجماعات الأصولية الأخرى المتطرفة والعنيفة.
تعد مرحلة "عبد الله بن عبد العزيز" بداية الإنقلاب في العلاقات السعودية الإخوانية، فعلى الرغم من أن السنوات الأولى في عهد الملك "عبد الله" لم تختلف عن أسلافه، إلا أنه مع الوقت وخاصة في عام 2011 بعد اندلاع أحداث الربيع العربي، بدأت مرحلة الإنقلاب، حيث خرجت بعض المطالبات بالإصلاح والتى تبناها المنتمون للإخوان مما دفع النظام السعودي إلى الانقلاب على الإخوان والوقوف ضد صعودهم لسدة الحكم في مصر، حيث باركت المملكة عزل الرئيس الإخوانى محمد مرسى ودعمت النظام الحالي للصمود في وجه الإخوان.
ومنذ اكثر من عام، بدأت التوجهات الجديدة لولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" للملكة ضد الإخوان تتجلى في تصريحاته لوسائل الإعلام المحلية والأجنبية.  فخلال لقاء أجراه الإعلامي "داوود شريان" مع ولى العهد الذي صرح بأن إعلام جماعة الإخوان المسلمين هو المسبب للشرخ في العلاقة المصرية السعودية، واتهمهم باغتيال عمه "الملك فيصل بن عبد العزيز". كما صرح ولى العهد في أبريل الماضي لصحيفة " نيويورك تايمز " الأمريكية قائلا  "بأن الإخوان هم دائما أساس الإرهاب " لو نظرت إلى أسامة بن لادن، فستجد أنه كان من الإخوان المسلمين... ولو نظرت للبغدادي في تنظيم داعش فستجد أنه أيضا كان من الإخوان المسلمين. في الواقع لو نظرت إلى أي إرهابي، فستجد أنه كان من الإخوان المسلمين... هدفهم الرئيس يتمثل في جعل المجتمعات الإسلامية في أوروبا متطرفة، فهم يأملون بأن تصبح أوروبا قارة إخوانية بعد 30 عاما، وهم يريدون أن يتحكموا بالمسلمين في أوروبا".
ورداً على تصريحات " بن سلمان"، أصدرت جماعة الإخوان بيان مناهضا جاء في مقدمته "إنَّ ما يفعله ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان"، من استمرار كذب وافتراء بحق جماعة "الإخوان المسلمين"، وربطها بأكاذيب الإرهاب، هو مَحض محاولةٍ خائبةٍ لمنحه تذكرة برعاية صهيوأمريكية لتولّيه العرش، لا عن جدارةٍ مُستحقةٍ بل بتنازلاتٍ مُهينةٍ".
وهناك عدة أسباب تفسر الموقف الذي اتخذته المملكة نحو الإخوان، منها تخوف المملكة من الخطر الذي أصبحت تشكله هذه الجماعة كمنافس على السلطة في المنطقة منذ اندلاع أحداث الربيع العربي وبعد نجاح الجماعة في الوصول إلى السلطة في مصر. وتدرك المملكة أن جماعة الإخوان كانت لاعباً رئيسيا في إشعال ثورة يناير التي أطاحت بالرئيس السابق حسنى مبارك، ومن ثم، فإن وصولهم إلى سدة الحكم قد يمكنهم من الدعوة للثورة على الأنظمة وزعزعة الاستقرار في المملكة وفى المنطقة برمتها.
وقد يرى البعض أن موقف "محمد بن سلمان" من الإخوان يرتبط برؤيته في محاربة التطرف وبتلك الخطوات الإصلاحية التي شرع في تنفيذها مؤخراً والتي تضمنت السماح للمرأة بقيادة السيارة، ودخول دور السينما، وحضور الحفلات الغنائية.  إلا أن هذا التفسير ربما يكون غير كافي، خاصة وأن المملكة اعتادت وهي تواجه التطرف على دعم ظهير إسلامي معتدل –من وجهة نظرهم- وقد مثل الإخوان في حقبة ما ذلك الظهير، إلى جانب أن "بن سلمان" لا ينوى أو ليس في مصلحته بصورة كبيرة تحييد دور الدين في السياسية ولكنه يسعى للاستعانة بنسخة مختلفة من الإسلام لمواجهة الحرس القديم الذي يرفض التغيير.
موقف المملكة وولي العهد السعودي لم يختلف عن موقف المؤسس، فالمؤسس الذي استغل جماعة الإخوان المسلمين في خطته ومشروع الوحدة الإسلامية بناء على معطيات الواقع، جاء حفيده واستنادا إلى معطيات الواقع أيضا وفي إطار مشروعه السياسي ليقوم بالتخلي عن الإخوان وإنهاء وجودهم في المملكة. فالإخوان لم يعد لهم مقعد في مشروع "بن سلمان " الإصلاحي، ولا يتناسبون مع توجهات المملكة الجديدة ولا مع سياسة حلفائها. وبما أن أي تحالف يقوم على المصالح المشتركة، فإن الجماعة وفروعها العديدة لا تشارك "بن سلمان" في أي من أولوياته - خاصة في ضوء التحديات التي يواجهها مشروعه في الداخل والخارج.

محمد مختار قنديل

محمد مختار قنديل هو كاتب وباحث مصري متخصص في شؤون الإسلام السياسي والجمعات المتطرفة. وهو مؤلف كتاب "الفكر الإسلامي الجهادي المعاصر"، وكذلك "الإخوان المرتدون" وكتاب "الدعوة السلفية "


المصدر : معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
washingtoninstitute.org

اسرائيل تسرق الأسرار الإيرانية .



نشرت على الأقلّ ثلاث من أكبر الصحف في الولايات المتحدة - وهي "نيويورك تايمز" و "وول ستريت جورنال" و "واشنطن بوست" - قصصاً في صفحاتها الأولى تفصّل ما أظهره وقاله المسؤولون الإسرائيليون لمراسليهم الأسبوع الماضي عن اكتناز أسرار إيران النووية التي سرقتها إسرائيل من مستودع في طهران في كانون الثاني/يناير المنصرم.
لقد تمّت مشاركة الصفحات المسروقة البالغ عددها ٥٠ ألفاً، إلى جانب ١٦٣ قرصاً حاسوبياً، وأشرطة فيديو وخطط، مع الولايات المتحدة ووكالات استخبارات غربية أخرى، بالإضافة إلى "الوكالة الدولية للطاقة الذرية".
وأعادت صحيفة "التايمز" سرد تفاصيل عن السرقة نفسها على النحو التالي: أعطى الفريق الإسرائيلي نفسه ست ساعات، منها ٢٩ دقيقة للسطو، مانحاً نفسه ساعتين للهرب قبل انطلاق أجهزة الإنذار. وعلى الرغم من التحذير الأمني الهائل، تكهّنت "التايمز" بـ "أنّ الهروب من الساحل، على بعد بضع ساعات فقط بالسيارة من طهران، يبدو أقلّ خطورة". ويشير التقرير إلى أنّ العملاء توجّهوا على الأرجح شمالاً إلى بحر قزوين ثم انطلقوا في النهاية بالقوارب ربما إلى أذربيجان.
ووفقاً لصحيفة "التايمز"، فقد كان بادئ ديوترايد اليورانيوم أحد "التقنيات الرئيسية" التي اكتسبتها إيران من الناشر النووي الباكستاني، الدكتور ع. ق. خان. وهذا البادئ هو بالكاد رئيسي ولكنّه ضروري حتماً لفيزياء الانفجار النووي، ويبلغ قُطره بوصة أو نحو ذلك ويقبع داخل تجويف في نواة اليورانيوم العالي التخصيب. وعندما يتم سحقه بفعل "انفجار داخلي" ناجم عن المواد التقليدية الشديدة الانفجار، يطلق البادئ موجة من ملايين النيوترونات أو ما يقارب ذلك من أجل تعزيز التفاعل المتسلسل الناشئ وغير المتحكم فيه داخل المادة النووية.
وركّزت صحيفة "وول ستريت جورنال" على الأنشطة الإيرانية في قاعدة بارشين العسكرية للأبحاث، بالقرب من طهران، حيث أجريت اختبارات شديدة الانفجار في غرفة أسطوانية من الفولاذ المقوّى المُعد خصيصاً لذلك. وكان من الممكن استخدامها لإتقان "الانفجار الداخلي"، الذي يجب أن يكون متناسقاً بالكامل. ويستخدم الفنّيون كاميرات خاصة عالية السرعة وأجهزة الأشعة السينية الوميضية. وقد هُدم المبنى الذي كان يضمّ الغرفة منذ سنوات، وبذلت إيران جهوداً مكثّفة لتنظيف الموقع عن طريق إزالة التربة السطحية وتغطية المنطقة بالإسفلت.
وفي غضون ذلك، حصلت صحيفة "واشنطن بوست" على صورة لمهندسين إيرانيين يعملون على ما تم وصفه بأنّه نموذج أولي غير عامل لتجميع الرؤوس الحربية النووية. وإذا كان قطره ١٣ بوصة، كما يبدو، فهو من المؤكد تقريباً بأنّه التصميم الذي أعطته الصين لباكستان في أوائل الثمانينيات ونقله خان إلى ليبيا أيضاً. (يحتوي الجسم الكروي المعدني المصقول على نواة من اليورانيوم العالي التخصيب قطرها ٥ بوصات معلّقة في مركزه. ويكون الجسم الكروي المعدني محاطاً بمواد شديدة الانفجار مصممة بأشكال خاصة - ٢٢ منها سداسية الشكل، و١٠ خماسية الشكل، كما هو الحال في كرة القدم من الطراز القديم).
واستهلت صحيفة "واشنطن بوست" تقريرها بأن إيران كانت "على أعتاب إتقان تقنيات رئيسية لصنع القنابل عندما صدر أمر بوقف البحث قبل ١٥ عاماً". وكان أحد دوافع إسرائيل لإظهار وثائقها الثمينة هو الإثبات بأن إيران استمرت في العمل بعد الموعد النهائي عام ٢٠٠٣، والذي يُفترض أنه ناجم عن رغبة طهران في تجنب المواجهة مع الولايات المتحدة، التي كانت قد أطاحت لتوها بالرئيس العراقي صدام حسين بسبب استمراره المزعوم في تطوير برامج أسلحة الدمار الشامل.
لقد لاحظت المخابرات الأمريكية تحرك إيران، على الرغم من أن تطويرها المستمر لقدرة تخصيب اليورانيوم وتطوير الصواريخ البعيدة المدى يلقيان ظلالاً من الشك في أذهان الكثيرين بأن برنامج الأسلحة قد توقف بالفعل. وفي رأيي، كانت إيران قد تخطت هذه العتبة. وتوصلت إلى كيفية صنع قنبلة، وإن كانت نموذجاً أقل تعقيداً مما كانت ترغب فيه، ولكنها افتقرت إلى اليورانيوم العالي التخصيب الضروري [لصنع رأس نووي]. وفي أحسن الأحوال، تم إيقاف الجزء المتعلق بصنع القنبلة من البرنامج، وذلك بشكل مؤقت، بينما واصلت إيران العمل على المتفجرات النووية والصاروخ [الخاص] بحمل رأس حربي.
إن الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ الذي وافقت عليه إيران مع الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا قد قبل المغالطة بأن إيران لم يكن لديها أبداً برنامج للأسلحة النووية. ومن الواضح أن هذا كان محض هراء. فقد فاز مؤيدو ذلك الاتفاق بالحجة السياسية في ذلك الوقت، ولكن على أساس فكري مشكوك فيه.
والآن، تم إذكاء الحجة السياسية من جديد من خلال انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق. ولكنّ الاكتشاف الإسرائيلي يجعل من الحجة المتمثلة في الالتزام بالاتفاق أمراً أكثر صعوبة.
وتبقى عدة أسئلة يجدر ذكرها. ما الذي حدث للآثار المادية لبرنامج الأسلحة الإيراني؟ وللأجسام الكروية المعدنية، وأجهزة الأشعة السينية الوميضية، و"اللوحات الطائرة" التي هي جزء من التصميم الصيني؟ هل تم تخزينها في مستودع آخر أو اثنين في إيران، أو الأسوأ من ذلك، هل تستمر البحوث في هذين المستودعين؟

سايمون هندرسون :مدير برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن.

المصدر : معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى
washingtoninstitute.org