الثلاثاء، 21 يونيو 2016

هل الحكم الجمالي حكم ذاتي أم كوني ؟

هل الحكم الجمالي حكم ذاتي يختلف من شخص إلى آخر أم أنه حكم عام و كوني يتفق حوله الجميع ؟
          أثارنا الإنسان في لحظات عدة، و جمدتنا ظواهره على تأمل عميق غير ما مرة، تأملات بقيت مرادفة لقلق فلسفي فضولي دائم، تأملنا الإنسان في لحظات وجوده الأولى وعند بناء وعيه و تجمعاته، و تأملناه في لحظات بحثه عن البقاء بالتقنية و الشغل... و في اللحظة التي يتأمل فيها العقل الفلسفي حجم المخاطر التي تواججها الذات الإنسانية،انتبه إلى أن كل تلك المعاناة تعتصر من الإنسان أجمل ما فيه (الفن).                                                    
          سحر "الفن" يكمن في أنه كلمة تحس أكثر مما تسمع، و ترسم أكثر مما تكتب، و ترفع الأنتروبولوجيا من أهمية الموضوع حينما تتحفنا، بحقائق تكشف عن حجم سيلان الفن في الحياة اليومية للشعور منذ فجر التاريخ، إذ بالفن نحثت الحضارات ذكرياتها و أفراحها الكبرى  ومآسيها العظمى، أما علم النفس فيكشف في حديثه عن التحكم و التأثير في نفسية الذات و كذا عند حديثه عن العلاقات اللاشعورية بين الذوات –يكشف- عن قوة الرسالة الفنية و انعكاسات اللون و اللحن و الصورة في طبيعة شخصية الفرد.                                                
        و في خضم هذا الإنبهار الفلسفي بالموضوع، و لما اختلفت الشعوب حول معايير الأذواق، طفت على السطح اشكاليات حول معنى الجمال، وبدأ نقاش عميق عند الفلاسفة اليونان، لم يبرح منذ تلك اللحظة  و فرض نفسه بقوة مع الفلاسفة الألمان بالخصوص، كـ كانط و نيتشه ...، قلق فلسفي ننخرط في تحليله بعد صياغة إشكاليته كالتالي: ما الفن ؟ ما الحكم الجمالي ؟ إلى أي حد يمكن أن يوضع ''للعمل الفني'' معايير؟ و هل الحكم الجمالي نسبي يختلف من ذات لأخرى أم أنه مطلق يتفق حوله الجميع؟                                                   
           أطروحات عديدة تحملها الإشكالية تلك، نكتفي بأطروحة مفرضة محددة، مفادها  أن الحكم الجمالي حكم ذاتي خالص، و لا يمكن بأي وجه من الوجوه أن تضع جميع الذوات معايير و قوالب جاهزة قصد تحديد الحكم الجمالي.                                                         
                                           
         إذا كان الفن أو الجميل يحس ، و الإحساس لغة الوجدان فلا داعي لقراءة الأمر خارج الذات، إضافة إلى أن الفن أو الجمال ليس بمفهوم جامد سطحي ولا يقبل تعريفا واحدا و لا وجهة نظر موحدة، بل هو قيمة انسانية و مشرب كل ذات لتنفلت من سوداوية الواقع إلى روعة الجمال.                                                                                                  
        الفن و الإمتاع صفتان مترادفتان ينزعان بالذات إلى انتاج او عيش المتعة، و بالتالي فالحكم على لوحة أو لحن أو أي لون من ألوان الطبيعة و الفن، يبقى أمرا ذاتيا خالصا.          
       إنه لو اتفقت الأذواق على أحكام الجمال و القبح لرغب الجميع في وجه حسن واحد ورغب الكل عن وجه شؤم محدد. و لو كان الحكم مطلقا لحكمنا على التنوع الثقافي والحضاري بالموت، لأنه سيكون ثمة نفس اللباس و الزينة و الموسيقى و الرقص لدى كل البشر في كل الأزمان  و في مختلف الأوطان.                                                                     
        فحتى إذا توقفنا على مفهوم الفن و الحكم الجمالي فسنجد أن بينهما خط مثين يعزز الأطروحة السابقة، فالفن فاعلية انسانية تأخذ الوجدان منبعا لها، و تترجم الإحساس إما إلى إبداع مجرد ، أو إلى لمسة على المادة و بتعبير "كانط" فإن الفن هو نتاج عقلي تحكمه الطبيعة الانسانية، و بتعبير آخر إنه نوع من الوعي بالحياة وتجاوز لها بغية تحقيق نوع من السمو الى الكلي.         
         أما الحكم الجمالي فيمكن تعريفه على انه تعبير عن نظرة الفرد الى الاشياء او الاشخاص نظرة تقييم اخلاقية او استطيقية ، اما بالجمال و القبح او بالخي او الشر، منطلقا من الشعور بلذة ذاتية خالية من اي وازع نفعي او اي محدد موضوعي.                                                                                        
          و العلاقة بين المفهومين  تتجلى في أن الحكم الجمالي بدوره نوع من الفن و اقبال و توق له بل إن كل واحد منهما دليل على الآخر،  و يتقاسمان  صفة جوهرية أساسية تتجلى في أن كلاهما ينبعان من المتعة المجردة و الإحساس العميق، و ليست تحكمهما بالضرورة قواعد خارجية.                                                                                         
  
             أطروحة كهذه بموضوعيتها و قوة بنائها المنطقي  نجد لها ثقلا و مساحة مهمة ضمن خريطة التفكير الفلسفي و ذلك باختيار فيلسوف بحجم "إيمانويل كانط'' نفس ما سارت عليه الأطروحة المفترضة السابقة.                                                                        
        في كتابه "نقد ملكة الحكم"  يميز "إيمانويل كانط" الحكم الجمالي باعتباره حكم ذوقي وموضوع متعة فنية خالصة تخص ملكة الحكم عن المنفعة المادية كما يميزه  في ذوقه عن الحكم المعرفي الذي يقوم على الفهم في إدراكه للموضوعات الفكرية و الأشياء االخارجية . زيادة على ان الحكم الجمالي هو ذاتي خاص بخلاف الحكم المعرفي الذي هو موضوعي برهاني.                                                                                                 
          ولأن النقاش الفلسفي يرفض الدوغمائية فيمكننا القبول و  الوقوف على حدود هذه الأطروحة مع الإنجليزي "ديفيد هيوم'' الذي الذي اختار منحى تجاوز به نوعا ما، ربط الحكم الجمالي أو  الذوق بالذات بشكل تام، معتبرا أن المبادئ العامة للذوق هي مبادئ مشتركة إلا أن التقديرات الفنية و الحساسيات الجمالية تخضع للمتغيرات الاجتماعية و المزاج الشخصي والخبرات الفردية وهذا هو مصدر اختلاف الأحكام الجمالية بين الناس، أي أن الحكم الجمالي رغم أن في ظاهره يظهر أنه ذاتي محض، إلا أنه في الحقيقة يتأثر بالمحيط و الثقافة و الأحكام المسبقة و يتأثر أيضا بطبيعة العلاقة بين الذات و المحيط إضافة إلى تأثر الحكم الجمالي بفلسفة الشخص و نظرته للحياة.                                                                             
          و يظهر من خلال الموقفين أن الحكم الجمالي هو حكم ذاتي مشترك بالرغم من اختلاف أذواق الناس الذي يرجع أساسا إما إلى بنية ملكاتهم الذوقية بسبب أحكام مسبقة وانعدام الخبرة بالفنون أو غياب الحس الفني النقدي كما أن الحكم الجمالي يختلف عن الحكم المعرفي فإن كان الأول يتعلق بمشاعر اللذة و الإشباع أو الاستحسان و الاستهجان فالثاني يرتبط بالفهم ومعنى هذا أننا نفقد تذوق الجميل عندما نحاول فهم الأشياء التي نراها ونسمعها فالوردة عندما نشرحها مثلا لنعرف عناصرها الكيميائية لا ريب أننا نفقدها جمالها، إن الجميل غايته تنبع منه، يحملها معه، تكسوها ظلال وسحب من التأمل الفني الخالص.                                      
         إجمالا مما سبق و بعد تحديدنا للإشكالية الأساسية حول قضية الحكم الجمالية و ما تعبر عنه من حيرة فلسفية حول الأمر، توقفنا على أطروحة مفترضة طالما وجدت سندا كبيرا سواءا عند الفلاسفة أو عند العامة التي مفادها أن الحكم الجمالي أمر ذاتي نسبي،  و انعرجنا بعد تحديد المفاهيم على تيارين فلسفيين تيار يرى الحكم الجمالي ذاتي من محض يعبر عن حرية الفرد وتيار يعترض على الأمر بحجة أن ذوق الفرد يتأثر بالبيئة و الأحكام المسبقة.                   
         و أنا أعبرعن موقفي حول الأمر أجدني اقف على أفق أخرى للنقاش ربما أستطيع اختزال قلقي حياله كالتالي:هل استعدادنا للدفاع عن أطروحة ''نسبية الأذواق و القيم بين الأفراد'' نابع من دفاعنا عن حريتنا أم عن قبولنا لحرية غيرنا ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق